أعدها للنشر: ناجح حسن - تضمنت الدورة الثالثة للمهرجان الدولي للفيلم العربي، التي أقيمت مؤخرا في مدينة وهران الجزائرية، ندوة سينمائية أدارها وأشرف عليها رئيس المهرجان حمراوي حبيب شوقي، بمشاركة كاتب الدولة ووزير الاتصال الأديب الجزائري عز الدين الميهوبي، ومجموعة من السينمائيين والنقاد العرب من بينهم: ماجدة واصف، عدنان مدانات، عز الدين شلح، كمال رمزي، مصطفى المسناوي وبشار إبراهيم.
أعقب الندوة مداخلات وتعقيبات لعدد من السينمائيين والإعلاميين والنقاد العرب المشاركين في برامج المهرجان: سعيد ولد خليفة، رشيد مشهراوي، عبداللطيف بن عمار، أحمد بو غابة، واسيني الأعرج، وناجح حسن.
عاينت الندوة أبرز أسئلة السينما العربية وآفاق تطور هذه السينما والتحديات التي تواجه صناع الفيلم العربي سواء في تقنياته وجمالياته، أو على صعيد التمويل وكتابة النصوص، أو في قواعد وأحكام العرض والتوزيع السائدة في تسويق الفيلم العربي.
الميهوبي: ضرورة العودة إلى السردية الأدبية
من حق الجزائر، البلد العربي الوحيد الذي تمكن من انتزاع جائزة السعفة الذهبية، أن يكون له مهرجان سينمائي دولي، خصوصا وأن السينما العربية تقف اليوم على مسافة مما شهدته السينما العالمية من مستوى تقني وجمالي متقدم، وهو ما يدفع القائمين على نهوض الفيلم العربي الذي ما يزال انتشاره على رقعة محلية، إلى ضرورة التعامل مع التحولات العالمية.
والأمر مدعاة للمطالبة باسترجاع مناقشة تلك القضايا التي سبق أن ناقشتها وتناولتها بجرأة قامات السينما العربية الرفيعة، وفي ظل غياب اسم مثل المخرج المصري العالمي يوسف شاهين لا بد من التأكيد أن السينما العربية ما تزال تنبض بالحياة، ونحن مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى في ابتكار مواضيع متنوعة تستطيع التعايش بصدق مع الواقع، على أن يجري التعامل معها بحرفية ومهنية تأخذ المقاربة مع موروثنا الثقافي والفكري دون أن تغفل الأبعاد الجمالية والتقنية الحديثة، لعلها تستطيع اجتياز العوائق والحواجز على غرار ما أمكن لابن خلدون من تجاوز لحاجز الثقافات، وهو الذي أقام في تونس والجزائر وجال في المغرب والأندلس وعاد إلى الشام وأدار نقاشا وجدلا نديا مع تيمور لنك (الآخر) ثم واصل تنقله في مناطق عديدة.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى توظيف الصورة في السينما، وما يزال الواحد فينا يذكر تلك الإلماعات الفيلمية التي نجح في تقديمها مخرجون عرب في أكثر من حقبة زمنية في تاريخ السينما العربية على غرار: المخدوعون للمصري توفيق صالح، و وقائع سنوات الجمر للجزائري محمد لخضر حامينا، و الأرض للمصري يوسف شاهين، و رسائل من سجنان للتونسي عبد اللطيف بن عمار.. وجميعها تتكئ على أعمال لنصوص إبداعية، فالفكرة التي كان يتأسس عليها الفيلم السينمائي العربي قبل أربعة عقود من الزمان كانت الرواية والقصة الأدبية، والبرهان على ذلك حجم تلك الأعمال السينمائية في مصر تحديدا.
على السينما العربية العودة إلى ينابيع الأدب، أو تقديم أفلام عن أعمال الجيل الجديد من الكتاب العرب كما بدا في نجاح فيلم عمارة يعقوبيان المستمد عن رواية الأديب علاء الأسواني، وقبل ذلك فيلم كيت كات عن رواية إبراهيم أصلان.
الفيلم العربي اليوم أخذ يبتعد عن طرح الأسئلة والإشكالات والقضايا التي يمكن لها أن تسهم في إثارة الوعي وتحريكه من جديد، ومن أبسط الأمور اليوم الدعوة إلى تحويل كثير من الإنجازات الأدبية في حقل الرواية إلى نصوص سينمائية، ومن حق المرء أن يتساءل عن غياب روايات الطيب صالح وواسيني الأعرج عن الشاشة البيضاء أمام تلك السيناريوهات الجاهزة التي قدمت أفلاما عاجزة عن الحضور المشرف في الملتقيات والمناسبات السينمائية العالمية.
لقد بتنا اليوم نرى أفلاما استهلاكية تفتقد وهج الحضور والفرجة والمتعة الفكرية والدرامية والجمالية، وإن وجود المجتمع العربي في قلب العالم يشكل نسبة لا بأس بها من التأثير، حيث تركز الصورة الإخبارية في العالم في معظمها على منطقتنا العربية، التي غدت واحة للأخبار والإنجازات الفيلمية التي توثق بالصورة دبيب حراك المجتمع العربي وتكشف عن كل تفاصيله، بحيث يتطلب ذلك من صناع الأفلام العربية الاهتمام بشكل جدي وحيوي في تناول أعمال تغوص في قضايا ومفاهيم المرأة والإرهاب والزواج المختلط وسوى ذلك من التحديات التي تواجه انطلاقة المجتمع بعيدا عن استنساخ أفكار جاهزة أو نمطية، سبق لنماذج سينمائية أن قدمتها في أستوديوهات هوليوود أو بومباي بالهند أو هونغ كونغ.
ويلاحظ اليوم إن هناك جيلا جديدا من الكتاب العرب فتح عينيه على أمور حيوية وبليغة الشأن، وحان على صناع الفيلم العربي الالتفات إليها وتحويلها إلى سيناريوهات لأفلام ناجحة تمتلك مفرداتها وأدواتها وخصوصيتها، وأيضا خلق حالة من التماس والتحاور بين السينمائي والروائي.
لا شك أن مسألة تمويل أفلام عربية شديدة الصعوبة اليوم، وتثير الحيرة والقلق لدى كثير من العاملين في حقل الفن السابع، لأن السينما العربية تفتقر إلى صناديق مالية متخصصة بصناعة الأفلام، وهو ما يقود العديد من صناع الأفلام العرب إلى البحث المضني عن الدعم الأوروبي المشترط التعجيزي، حيث يخضع السينمائي العربي إلى مظلة من التعليمات وإعادة النظر في عمله، ويجري تمرير رسائل ضارة بهوية السينمائي وتاريخ مجتمعه إن لم يكن هو التزييف بعينه، ولا يمكن تجاوز هذه الإشكالية سوى بتأسيس صندوق خاص بالسينما العربية.
كما أن تحسين نوعية التقنية الفنية والتدريب وتحديث البنية التحتية لمختبرات وأجهزة العمل السينمائي، كل ذلك يعد من بين الخطوات ذات المردود الإيجابي على تطور الفيلم العربي في الارتقاء بمستقبله بدلا من الذهاب بعيدا في أوروبا للحصول على تقنيات ملائمة، ولا بد أيضا من إيجاد وسائل تسويقية للأفلام العربية لعرضها في صالات السينما، ومن الضروري أن يتوجه خطاب الفيلم العربي إلى الثقافات الإنسانية بالعالم بعيدا عن الإبهار التكنولوجي والخيال الجامح، وهو ما فطنت ونجحت فيه العديد من سينمات بلدان العالم الثالث، كالأفلام الإيرانية والتركية والإفريقية وأفلام بلدان أميركا اللاتينية.
واصف: التمرد من أطر السينما التقليدية
كل جيل جاء برؤيته وحداثته، وكانت أفلام سينما الأجيال السابقة قد عانقت الكثير من مفاهيم وتيارات الحداثة السائدة آنذاك، سواء في التعاطي مع التقنيات الجمالية أو في أساليب السرد الجديدة، وتركت بصماتها على آليات التوزيع، التي سمحت بظهور عدد من المخرجين الذين تمردوا على أنماط السينما التقليدية، ومن بين هؤلاء نذكر بأعمال المخرج توفيق صالح ويوسف شاهين وشادي عبد السلام وعلي عبد الخالق وعلي بدرخان ومحمد خان وخيري بشارة وداوود عبد السيد ورضوان الكاشف، وصولا إلى مخرجين من أجيال تالية عرفتهم تيارات التجديد في السينما المصرية المتعاقبة وتكرست فيها أسماؤهم، حين جرى تبنى التجارب والتيارات والموجات السينمائية الجديدة في العالم، والتي بزغت معها أولى بشائر ميلاد مفهوم السينما العربية البديلة بفعل ما قدمته أدبيات النقد والتثقيف السينمائي في العديد من الأندية السينمائية والإصدارات للكتب والدوريات والبرامج التلفزيونية، وواكب هذا التحول ظهور مخرجين جدد أثبتوا مكانتهم على خريطة المشهد السينمائي العربي والعالمي، مثلما كان في أفلام المصري شادي عبد السلام. وفي الجزائر أيضا كان هناك حامينا وراشدي ومرزاق علواش، والتونسي رضا الباهي، والمغربي مؤمن السميحي، والسوري محمد ملص، واللبناني برهان علوية، والفلسطيني ميشيل خليفي.
نجحت تجارب وأعمال أولئك المخرجين حين قادت أفلامهم السينما العربية إلى آفاق رحبة، كما بشرت أيضا بأسماء تالية مثل: إيليا سليمان ورشيد مشهراوي وهاني أبو أسعد من فلسطين.. وبدت كنماذج مثالية للحداثة في السينما العربية وتواصلت مع قضايا وهموم إنسانية، وجلبت اهتمام العالم إلى تلك الطموحات والآمال والآلام بعيدا عن خطابية المؤتمرات المألوفة، حيث جرى فرض القضية والموضوع الفلسطيني على أجندة مهرجانات السينما العالمية الكبرى وفي صالات دور العرض في أرجاء العالم، فرغم الشتات الفلسطيني فإن السينمائيين الفلسطينيين وظفوا إمكانياتهم في رفد المشهد السينمائي العربي والعالمي بأفلام لائقة، حظيت بتقدير النقاد وأثارت إعجابا وجدلا راقيا لدى المتلقين.
غياب الأطر تحد يواجهه السينمائي نتيجة تلك التحولات التي عصفت بعلوم التكنولوجيا، حين أفرزت كمية وفيرة من الأجهزة والمعدات الرقمية، وبالتالي خلقت لغة بصرية بوصفها تجارب سينمائية عربية جرى من خلالها إزاحة تلك الصورة السينمائية القديمة لصالح خيارات لغة الصورة الحديثة بفعل أساليب وتقنيات رقمية مبتكرة، الأمر الذي ساهم في خلق سينما عربية جديدة قادرة على اختراق السينما العالمية.
شلح: تغييب طاقات الإبداع السينمائي
عملت السينما الفلسطينية على رصد انتفاضة الأقصى، وقدمت للعالم الواقع الفلسطيني بهمومه دون أن تسعى الأفلام إلى طرح موضوعاتها بعمق، وظلت إلى فترة بعيدة عن هاجس الفيلم الروائي إلا ما ندر، حيث أخذت الكاميرا تعاين الحواجز في تفاعل حيوي مع تفاصيل الواقع اليومي للإنسان الفلسطيني ومتاعبه نتيجة ممارسات وسلوكيات جيش الاحتلال الإسرائيلي على الحواجز ونقاط التفتيش وفي محطات العبور.
ولم تنو السلطة الفلسطينية دعم أي جهد سينمائي إلا بالقدر الضئيل، وليس هناك أي مشروع لإنتاج أفلام سينمائية ضمن خطط التنمية الثقافية، وفي هذه الأجواء ظلت قضايا القدس واللاجئين والمياه والمرأة والمقاومة والاعتقال السياسي بعيدة عن تناول الأفلام الفلسطينية، ولئن طرحت في هذا العمل أو ذاك فإنها جاءت بشكل مباشر يحتشد بصنوف المعاناة، ويحسب لفيلم القدس في مكان آخر لهاني أبو أسعد، و تذكرة إلى القدس لرشيد مشهراوي، بأنهما صورا في أماكن حقيقية، وفي داخل القدس جرى توظيف موضوعيهما على نحو جوهري وفريد في التعاطي مع الحواجز والمتاعب اليومية للناس، كما نجحا في الكشف عن تعلق الإنسان الفلسطيني بهويته ووطنه مهما تفننت إسرائيل في تهويد المدينة.
وبسطت أفلام عديدة أمام الرأي العام العالمي ملامح لشخصيات الاستشهادي، وهناك من رأى أن فيلم الجنة الآن لأبو أسعد يكشف عن أبعاد إنسانية، وقدمته بأنه عمل يعلي من قيمة الحياة، في الوقت الذي عملت إسرائيل فيه على إعطاء صفة الإرهابي لكل عمل مقاوم.
وما تزال السينما الفلسطيني تعاني من مشكلة التمويل وطريقة توجيهه إلى الرؤى الجديدة التي تحكم خيارات صانعيه، تفضح وتدين بلغة راقية بشاعة الاحتلال رغم تحديات وعقبات التصوير في الداخل الفلسطيني.
ومن الواجب على القائمين على الثقافة في السلطة الفلسطينية، وضع خطط وبرامج لإطلاق طاقات المبدعين لخوض غمار الفن السابع بأساليب جديدة، وتهيئة الكادر المؤهل وإشراكهم في دورات تدريبية في التذوق السينمائي وتشكيل لجان متخصصة للإشراف على مشاريع الأفلام والعمل على تأسيس أرشيف فلسطيني ومتابعته مع مثيله من مكتبات العالم ورفده بمواد فيلمية صورت داخل فلسطين في أكثر من حقبة زمنية لتكون مرجعا يستفاد منه في الأفلام الجديدة.
مدانات: توظيف التقنيات في اللغة السينمائية
هناك شاعر عربي مقيم في أوروبا قال يوما: نحن أهم من الشعراء الأوروبيين، لأن لدينا الروح، وهم لديهم التكنولوجيا والتقنيات . هذا الكلام إذا كان ينطبق على السرد الأدبي فإنه لا مجال لقبوله في العمل السينمائي، الذي يتكئ في عناصره على توظيف التقنيات، حيث ساهمت التكنولوجيا العلمية في اكتشاف متتال للغة السينما.
وعبر قراءة تاريخ السينما تأكد أن التقنيات والإبداع أمران متلازمان، فلا يمكن لأي سينمائي تحقيق رؤية خاصة إبداعية من دون تمكنه على عناصر تقنيات مناسبة، وأقرب مثال على ذلك فيلم المواطن كين الذي صنع 1939، حيث يعد إلى اليوم من أحدث الأفلام إلى درجة خارقة للعادة.. من يتأمل الكاميرا وهي تتتبع في منظر طويل وتغوص في عمق المجال والمنظور بدلالات فن الرسم التشكيلي يدرك أن ذلك ما كان ذلك ليتحقق لولا تقنيات هندسية وأجهزة الكرين والروافع التي جاءت بفطنة وبراعة مخرج الفيلم أورسن ويلز.
لكن ما يميز السينما أنها منذ بدأت يومها الأول تتخذ صفة الإيهام بالواقع أكثر من عكس الواقع، فكل التقنيات تستهدف زيادة وتعميق الإحساس بكسر الإيهام، ففي مجال السينما كثرت الأفلام الغرائبية والخيال العلمي والرسوم المتحركة والتجريبية الغارقة في الإيهام. أما في السينما العربية فنحن إزاء تطور متسارع ومذهل اسمه التقنية الرقمية، مما سهل على الكثيرين النهوض بصناعة الأفلام، وبات المرء يرى نتاجات سينمائية في بلدان عربية كثيرا ما ظلت بعيدة عن اقتحام هذا الحقل الإبداعي مثل الإمارات والأردن والسعودية واليمن، فالتقنيات الحديثة باتت تقترب من أعمال السحر، وصار امتلاكها يشكل حلما لسينمائيي العالم العربي والعالم الثالث الطامحين في صنع أفلام تنافس أفلاما عالمية.
تصور أولئك المخرجون أنه من السهولة بمكان الوصول إلى محاكاة أفلام عالمية على المستوى التقني والجمالي، بيد أن التقنيات ليست مجرد وسيلة تسمح للفيلم في التعبير عن فكرة أو موضوع أو هواجس أو تجريب بوسائل جديدة، فهي قد تنتج أفلاما سطحية لا قيمة جمالية أو درامية لها، ولا تعلق في ذاكرة السينما إذا افتقدت إحساس المخرج ورؤيته وبلاغته الدرامية والبصرية.
فالتقنيات السينمائية تكمن في ميادين الاحتراف والمهنية اللائقة التي تهتم بتقديم صناعة أفلام في الاستعانة بتقنية عالمية متاحة للجميع بالمقدار نفسه، لكنها قطعا لا تصنع بالمستوى الإبداعي والحرفية والمهارة الفنية نفسها، أو في توظيف المؤثرات والحيل، بحيث يمكن من خلال توظيفها تصنيف هوية الفيلم في ما إذا كانت أجنبية أو عربية أو افريقية أو لاتينية أو محلية، وفي الوقت نفسه تعبر عن شخصية إبداعية لمخرج الفيلم وتكشف عن أسلوبيته ورؤيته كما هو الأمر في أفلام السينما الإيرانية، حيث نجد هناك مخرجين محترفين يمتلكون خيالهم الخصب وتعرف أعمالهم مباشرة من سمات كل عمل مقدما، كأعمال عباس كيروستامي ومجيد مجيدي.
إن إشكالية التعامل مع التقنيات السينمائية وعناصرها تتعلق بتعلمها، وبعد مرحلة التعلم أو أثناءها يمكن أن نوجد حالة سينمائية ذات أصالة.
رمزي: نفحة الحداثة في الكلاسيكية
المهرجان يمكن أن يساهم في الإنتاج السينمائي أو في طرح مشاريع إنتاجية مشتركة، والسينمائي النابه يستطيع أن يتجاوز الكثير من العوائق والتحديات في ابتكار التقنيات لتقديم عمل حداثي معاصر، وأذكر بهذا الصدد جهود المخرج صلاح أبو سيف عندما قدم بفيلمه ريا وسكينة صورة فائقة الجمالية من خلال توظيفه الدقيق والمتين لوسائل بسيطة مستمدة من بيئته، بحيث وضع عليها الكاميرا وبدت الصورة تشع فنا ودورا دراميا أخاذا، حين كانت الصورة تأتي من وجهة نظر الراقصة، التي كانت تترنح ولم يمكن الحصول على تلك اللغة البصرية إلا بوجود مصور سينمائي ذكي هو الراحل وحيد فريد، الذي يعد من أساتذة التصوير السينمائي عندما قرر أن يلتقط المنظر بعين الكاميرا المثبتة في قفة ممسوكة بحبال وخرج هذا المشهد على نحو رائع ومبتكر.
هذا الأسلوب في التعاطي مع المواد البسيطة، يعد نوعا من مواجهة التحديات والعقبات التي تعترض السينمائي في العالم الثالث أو الذي يعمل في ميزانيات محدودة، وهو دليل على أنه يمكن تجاوز مسألة التكنولوجيا أو الاستعاضة عنها ببدائل من مفردات وعناصر البيئة المحلية بأقل الإمكانيات، كما يمكن توفير جزء من ميزانية العمل بما يمكن تسميته: الخلق الإبداعي الذي ينتشر في كثير من سينمات العالم الثالث.
وبعيدا عن الانبهار بتكنولوجيا الغرب والتكلفة العالية للميزانية، استطاع مخرج مثل أبو سيف أن يقدم الكثير من كلاسيكيات السينما العربية التي ما تزال عالقة في أذهان عشاق الفن السابع.
هناك أيضا مخرج يقدم رؤى حديثة تكون عصية على قدرة المتفرج، وغالبا ما تفشل هذه النوعية من الأفلام على صعيد شباك التذاكر، لكنها قد تترك أثرا قويا لدى المتلقي بعد فترة من الزمن. وأذكر في هذا السياق فيلم أنياب للمخرج محمد شبل، الذي اعترف المخرج الكبير صلاح أبو سيف ذات يوم أن فيلم شبل شجعه على إنجاز فيلم البداية .
هناك الكثير من المفارقات تعيشها السينما العربية، ففي الفيلم المصري دائما موضوع الزواج يختتم أحداث الفيلم، وغالبا ما يكون اللقاء على شط البحر، في حين أن نهاية الأفلام المغاربية تظل دوما مأساوية، فالبطل يهاجر أو يموت أو ينتحر غرقا في البحر، وهذا ذو صلة بتحولات الواقع والخيال لدى صانع الأفلام أو في رغبة الجمهور أو وفقا لما تقتضيه الروايات، كحال أعمال نجيب محفوظ مثلا.
السيناريو هو الحلقة الأضعف في الفيلم العربي، فرغم توفر عناصر التمثيل والإخراج والموسيقى والتصوير، فإن نجاح العمل أحوج ما يكون إلى نص قوي يرفد مفردات العمل السينمائي بالجاذبية، فعلى سبيل المثال لو نظمنا في مصر مسابقة لكتابة نصوص وسيناريوهات لوجدنا الكثير من المفاجآت، حيث يصعب اختيار ثلاثة نصوص من تسعين نصا متقدما للمسابقة، وهذا حدث على أرض الواقع.
نفحة الحداثة مهمة في حدود على صعيد صناعة الأفلام، شرط أن لا تكون مغامرة لأن السينما التجارية أو التقليدية هي سيدة السوق اليوم والفاعلة في استمرار وبقاء الفن السابع، وتعمل على تفعيل دورة صناعة الأفلام، فلولا المساعدات الخارجية ليوسف شاهين لفشل في صناعة أفلامه الأخيرة، واكتشاف أعماله الجديدة لا يمكن أن يأتي إلا من خلال دورة كاملة تقتضيها أحكام وقواعد العرض السينمائي السائدة في الأسواق المحلية، فالطابع التجاري لا يعني التقليل من قيمة الفيلم، والأفضل أن تأتي الحداثة من داخل العمل، كما سبق لجيل يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح وهنري بركات أن اشتغلوا عليها بلا ادعاء أو تهويل.
المسناوي: التحول من الكلمة إلى الصورة
أهمية الفيلم العربي اليوم تكمن في قدرته على التحول من سينما الكلام إلى سينما الصورة، خصوصا أن الحداثة أخذت مفاهيم متعددة تستفيد من هموم وجماليات الفن السابع. والملاحظ على الفيلم العربي الذي يتمتع بإقبال عريض من الحضور العربي، أنه لا يلتفت إليه من قبل المتفرج في الثقافات الأخرى أو من هم خارج حدود البلدان العربية، وهنا تقع أزمة السينما العربية أو مشكلتها الأساسية.
فالفيلم العربي غالبا ما يعتمد على الحوار والكلام بعيدا عن الصورة أو الأسلوبية اللافتة في تقنيات الإخراج، وذلك عندما يأخذ المخرج العربي في تنفيذ النص المكتوب ونقله بواسطة الكاميرا حرفيا دون أي اشتغالات أو اهتمامات بوظيفة الصورة والتكوينات والزوايا والاعتناء باللقطات الانتقالية من حديث إلى حديث، وكأن من يجلس لمشاهدة فيلم عربي كالمستمع لمذياع أو كالمتفرج على عمل مسرحي، وهذا الفيلم اصطلح النقاد على تسميته: الفيلم التقليدي كونه يأتي خاليا من أي اهتمامات بصرية أو فكرية أو توجيه للمؤثرات الصوتية، وإن وجدت فإنها تختزل بالموسيقى التصويرية التي يصعب على الناقد فهم سبب اختيارها.
الفيلم المصري عموما باستثناء حالات نادرة، ظهر للوهلة الأولى وكأنه بديل عن القصة أو الرواية، ومن خارج مصر جاءت سينما مختلفة عن الفيلم المصري التقليدي قدمها مخرجون في سوريا والعراق وفلسطين والمغرب وتونس والجزائر ولبنان، وظهرت مع أسماء مثل: برهان علوية ومحمد ملص وأحمد راشدي ومحمد لخضر حامينا وحميد بناني. وهي قيد الانطلاق في بلدان عربية أخرى وبمخرجين شباب جدد، خصوصا مع هطول تلك التقنيات الرقمية في كاميرا الفيديو التي تغلب فيها المخرج على مشكلة التمويل والمعامل والمختبرات المكلفة، حيث ظهرت موجات متعاقبة من الأفلام القصيرة والطويلة دون الاعتماد على الصوت مباشرة وغذت ميادين صناعة الأفلام بالكثير من التجارب التي تعانق السينما الحديثة، لكنها للأسف الشديد ظلت مغيبة عن الوصول إلى المتلقي ولا تحظى بالاهتمام من رواد الصالات السينمائية، فعلى سبيل المثال لم يحظ الفيلم المغربي الراقد لياسمين قصاري بفرصة توزيعه في الصالات المغربية، لكنه وجد نجاحا ملموسا في صالات أوروبية وآسيوية وأميركية.
أغلبية محاولات التحديث في السينما العربية إن لم يكن جميعها، اصطدمت بالصد والممانعة من الجمهور الخاضع إلى أحكام وقواعد العرض السينمائي السائدة، وبعض الوقائع كفيلة بالخروج من هذا التحدي، ذلك لأن كثيرا من البلدان العربية لم تعد متشددة في تعليمات الرقابة السينمائية، لكن ما العمل في ظل أن رواد الصالات ما يزالون أسرى النظرة الدرامية التلفزيونية، وغير راغبين في خوض مغامرة مشاهدة نماذج من سينما مختلفة.
إبراهيم: من السوبرمان إلى تفاصيل الواقع
الكلاسيكية والحداثة يمكنهما التعايش معا في المشهد السينمائي العربي، ومن الصعوبة بمكان أن نعثر في قائمة أفلام 2009 على أفلام كلاسيكية تسير على نهج الأفلام في السينما العربية القديمة.
فعندما أظهر رشيد مشهراوي في فيلم دار دور رجلا فلسطينيا يبكي، بدا وكأنه يدق المسمار الأخير في نعش السينما الفلسطينية القديمة، التي طغى عليها طابع التعبوية والتحريض.
فالدخول إلى باب الحداثة من باب التقليدية هو السؤال الأساسي الذي يجري التداول بشأنه في لقاءات السينمائيين بغية مغازلة رواد الصالات. لنتذكر تجربة ميشيل خليفي في فيلمه التسجيلي الطويل مشاهد من الذاكرة الخصبة ، وزميلته مي المصري بأفلامها التسجيلية العديدة، فإن المتلقي يعثر على مبتغاه في براعة وحرفية الرؤية في البناء الدرامي للأحداث المستمدة من صلب الحياة اليومية والفهم المتمكن للمعالجة البصرية التي باتت تحكم أساس صنعة الفيلم السينمائي.
وفي تقييمات كثير من النقاد، إن مثل تلك الأفلام أعلنت ميلاد السينما الجديدة، بحيث لبت رغبات عشاق الفن السابع من المهتمين والنقاد، ونجحت في الانفلات من حصار السوق السينمائية.
لكن المخاطرة الإنتاجية هي السمة الغالبة على مجمل نتاجات السينما العربية الجديدة، وقد أفرزت وقائع جديدة تمثلت في أن السينما الفلسطينية لم تعد تقوى على تمويل نفسها بل اتجهت إلى التمويل الأجنبي في أوروبا وأميركا وفق صيغ تعاقدية لتتمكن من التصدي لآليات الإنتاج السينمائي والتسويق السائدة، والذي مكن صناع تلك السينما من العمل، هو إقامتهم ودراستهم في تلك البلدان، وبدت في أعمالهم تلك السمات الجديدة البعيدة عن القوالب الجاهزة، وكأننا نشهد بداية تحول في التعامل مع التعابير الجمالية.
فرغم ما أصاب المؤسسة الفلسطينية من تراجع، إلا أن الخطاب السينمائي الفلسطيني لحسن الحظ انتقل من العمل في الخارج إلى الداخل بالحرفية والمهنية والطاقة الإبداعية نفسها، وبات المتلقي يسعد بأعمال سينمائية لافتة لهاني أبو اسعد ورشيد مشهراوي وإيليا سليمان ونجوى نجار وسواهم كثير بعيدا عن السمة الدعائية والتعبوية والتحريضية مثلما سبق أن قدمتها بدايات السينما الفلسطينية.
لقد أخذت هذه النوعية من الأفلام تقدم لحظات من التأمل والشاعرية وتفاصيل من العلاقات في الواقع الصعب الذي يعيشه الفرد في تلك البيئة، وفي جميعها تبدو تلك الإدانة القوية والمؤثرة في مواجهة التسلط والاحتلال والسلوكيات البشعة لآلة الحرب والدمار والقتل الإسرائيلية، بحيث نجح السينمائي الفلسطيني في مخاطبة العديد من الثقافات الإنسانية وإقناع المتلقي الآخر بتوجهه الدرامي والجمالي دون خطابية زاعقة أو دعائية أيديولوجية.
غدت الأفلام الفلسطينية اليوم تنتمي إلى سينما المخرج /المؤلف وهي تنهل من رؤية ذاتية تعبر بالحنين والعاطفة والتدرج دون أن تنحاز إلى صورة البطل الفرد (السوبرمان)، بل تلتصق بهموم الناس العاديين وطموحاتهم.